بعد الضربات الموجهة التي تعرض لها المحور الإيراني في المنطقة، ظلت جماعة الحوثي اليمنية الجهة الوحيدة من بين المجموعات المختلفة المدعومة من طهران التي تتحرك بحرية ولم تعان من انتكاسات خطيرة على مدار السنة الماضية.
كما يُنظر إليهم أيضاً على أنهم مقاتلون بالفطرة ليس لديهم ما يخسرونه، بخاصة وأنهم قضوا معظم الـ18 سنة الماضية في حروب متتالية لا تنتهي ولا تزيدهم إلا قوة ونفوذاً.
برغم إمكانياتهم المتواضعة نسبياً تحول الحوثيون خلال الحرب الأخيرة في غزة من جماعة محلية متمردة داخل اليمن إلى قوة بحرية ضاربة تشن هجماتها في المياه الدولية وتهدد أحد أهم الممرات المائية في العالم.
في خطاب لعبدالملك الحوثي، زعيم الجماعة الشيعية، ألقاه مؤخراً، استعرض بفخر حصيلة هجماته على مدار سنة تقريباً، إذ تم استهداف 193 سفينة وأطلق أكثر من 1000 صاروخ وطائرة من دون طيار على إسرائيل وأهداف بحرية مختلفة، قائلاً إن كل هذا كان دعماً لجماعة حماس في غزة وحزب الله في لبنان.
حتى الآن على الأقل، يبدو أنه لا شيء قادر على إيقاف توسع الحوثيين؛ لا القوة البحرية الدولية التي تقودها واشنطن في البحر الأحمر، ولا القصف الجوي المتكرر للمناطق التي يسيطرون عليها، بل أصبح الحوثيون أقوى، وأكثر كفاءة من الناحية التقنية، وأكثر أهمية في «محور المقاومة» مما كانوا عليه في بداية الحرب، فلم يتعرضوا لانتكاسات كبيرة كحزب الله، وقدموا أداء عسكرياً مميزاً بين جميع أعضاء المحور الآخرين.
وبعد نكسة حزب الله في سبتمبر الماضي واستمرار تدمير قدراته حتى اليوم، بات يُنظر إلى الحوثي كشخصية يمكن أن تحل محل زعيم حزب الله الراحل، حسن نصر الله، الذي كان حتى اغتياله في 27 سبتمبر رمزاً لـ«محور المقاومة» الموالي لإيران.
تعتبر المسافة التي تفصل اليمن عن إسرائيل ميزة للحوثيين، على عكس بعض الجماعات الأخرى في المحور، فإنهم يبعدون عن إسرائيل أكثر من 2000 كيلومتر، لكن في نفس الوقت فإن هذه المسافة البعيدة تضعف قدرتهم على التأثير وتشكل تهديداً لإسرائيل مقارنة بالميليشيات في سوريا ولبنان.
وفي مشروع بحثي موسع حول الصراع في اليمن، قامت لجنة من خبراء مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بكتابة تقرير مكون من أكثر من 500 صفحة حول قدرات الحوثيين وتمويلهم وتحالفاتهم، تحدث عن النمو السريع لقدرات الميليشيا سواء في الداخل أو في الخارج القريب، إذ طورت الميليشيا شبكة دولية متطورة للشحن وغسيل الأموال والتهريب والتجنيد والقرصنة.
وخلصت اللجنة إلى أن «حجم وطبيعة ومدى نقل المعدات العسكرية والتكنولوجيا المتنوعة المقدمة للحوثيين من مصادر خارجية، بما في ذلك الدعم المالي وتدريب مقاتليها، أمر غير مسبوق»، وزعم التقرير أن الحوثيين جمعوا إتاوات من بعض وكالات الشحن للسماح لسفنهم بالإبحار عبر البحر الأحمر وخليج عدن دون التعرض للهجوم.
ويزعم قادة الحوثيين أن هجماتهم بالصواريخ الباليستية والطائرات من دون طيار تستهدف السفن المرتبطة بإسرائيل وحلفائها، لكن في الممارسة العملية، هاجمت الجماعة بشكل متكرر مجموعة واسعة من السفن التي ليست تابعة لإسرائيل، بل قُتل في تلك الهجمات أربعة فلبينيين، ولم يُقتل فيها أي يهودي أو أمريكي.
ورغم أن معظم السفن التي تمر الآن عبر اليمن ليست معرضة للخطر، فلا يستهدف الحوثيون عموماً السفن التي تخدم المصالح الروسية والصينية، إلا أنه لا يمكن تجاهل حقيقة وقوع الممر المائي الذي تمر عبره عادة بضائع بقيمة تريليون دولار تحت هيمنة الحوثي.
فالبحر الأحمر أحد أهم الشرايين في نظام الشحن العالمي، حيث يمر عبره ثلث حركة الحاويات، و12% من النفط المنقول بحراً و8% من الغاز الطبيعي المسال، ولكن بعد أشهر من الهجمات، غير نصف أسطول الشحن العالمي الذي يمر بالبحر الأحمر مساره ليبحر حول رأس الرجاء الصالح.
وأدى ذلك لرفع تكاليف الوقود وتأخير وصول البضائع، وارتفاع أقساط التأمين وزيادة التكاليف على شركات الشحن بمليارات الدولارات، وبذلك تأثرت دول بعيدة عن المنطقة، فنحو 25% من الواردات الأوروبية و10% من الصادرات الأوروبية من الشرق الأوسط وآسيا تمر بمضيق باب المندب.
لم يكن الحوثيون القادمون من بيئات جبلية وعرة يمتلكون خبرة عسكرية تمكنهم من القيام بهجمات عسكرية معقدة ضد أهداف بحرية متحركة كما يحدث اليوم، لكن الخبراء العسكريين الإيرانيين أداروا تلك المواجهات وكرروا نفس الأساليب التي اتبعوها مراراً في مضيق هرمز.
وللمفارقة كان وجود البحرية الإيرانية بحجة مكافحة القرصنة هو الذي دعم هجمات الحوثي ضد سفن الشحن البحري، وقد شن الأمريكيون هجوماً سيبرانياً ضد السفينة الإيرانية «بهشاد»، في وقت سابق هذا العام بسبب الاشتباه في مساهمتها في إمداد الحوثيين بالمعلومات لاستهداف الشحن التجاري.
وعادت بهشاد إلى الخدمة لوقت قليل ثم رجعت إلى إيران في أبريل 2024، وكانت بهشاد قد حلت محل السفينة سافيز التي تضررت من الألغام البحرية في عام 2021 خلال جولة تصعيد بين إيران وإسرائيل.
وتنكر طهران رسمياً أي صلة لها بهجمات الحوثي للتنصل من تبعات ومسئوليات تلك الهجمات، لكن قادتها العسكريين يصرحون بعكس ذلك من حين لآخر بهدف إظهار السيطرة والهيمنة على الموقف في البحر الأحمر.
وسبق أن هاجم الحوثي سفينة إيرانية مما أسهم في دعم الرواية الرسمية الإيرانية التي تتنصل من مسئولية الهجمات، ونفت طهران خلال اجتماع المنظمة البحرية الدولية، ضلوعها في «زعزعة الملاحة داخل البحر الأحمر»، مؤكدة التزامها بقرارات مجلس الأمن المتعلقة بالعقوبات المفروضة على الحوثيين، والتزامها بحظر بيع ونقل الأسلحة إلى اليمن.
وقال مساعد وزير الطرق والتنمية الحضرية علي أكبر صفائي، الإثنين 18 نوفمبر الجاري، إن «الحوثيين مستقلون ومؤثرون في المنطقة، ويتخذون قراراتهم بحرية، وفقاً لمصالحهم»، طبقاً لما نقلته وكالة الأنباء الإيرانية.
لكن تقرير مجلس الأمن الدولي الأخير عن الحوثي أشار إلى وجود عبدالرضا شهلائي القيادي بفيلق القدس الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني، داخل هيكل القيادة والتحكم للحوثيين، كضابط اتصال في الأنشطة «الاستراتيجية والجهادية والعسكرية».
وأضاف التقرير، أن شهلائي يتولى كذلك الإشراف على القوات الجوية الفضائية (القذائف والمسيرات)، والقوات البحرية، وجميع المناطق العسكرية، إلى جانب التعبئة والخدمات اللوجيستية.
واللافت أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لم تتخذ خطوات جدية للقضاء على سيطرة الحوثيين، بل استغلت الموقف لحشد تحالف بحري دولي تحت قيادتها، وهي سياسة لم ترق لأصوات عديدة داخل واشنطن، فقد أدى طول المدة وعدم وجود أجل معين لمهمة البحر الأحمر إلى إحباط عدد من أعضاء الكونجرس، مثل النائب مايك والتز (وهو جمهوري من فلوريدا)، الذي يرأس اللجنة الفرعية للقوات المسلحة في مجلس النواب، فقال، «نحن نحرق عشرات المليارات من الدولارات من أجل ما يعادل في الواقع مجموعة من الإرهابيين الذين يعملون بالوكالة عن إيران. وإيران هي جوهر القضية»، مضيفاً «أسطولنا أصبح منهكاً، نحن نطلق الصواريخ التي نحتاجها للدفاع ضد سيناريو تايوان.. لذا فإن الصين هي الفائز الأكبر في نهاية المطاف».
فالصواريخ الدقيقة المضادة للسفن والصواريخ جو-أرض التي تستخدم في اليمن هي نفس النوع من الأسلحة التي ستكون في المقدمة وفي مركز أي قتال مع الصين، فالحملة في نظر معارضيها الأمريكيين تخاطر باستنزاف الذخائر التي يفضل البنتاجون تخزينها لمواجهة محتملة مع الصين، كما تتناقض في بعض النواحي مع تصريح بايدن مؤخراً، عندما أعلن انسحابه من الانتخابات، أنه أول رئيس في هذا القرن «يبلغ الشعب الأمريكي أن الولايات المتحدة ليست في حالة حرب في أي مكان في العالم».
فالولايات المتحدة أرسلت حاملات طائرات ومدمرات في البحر الأحمر لعدة أشهر متتالية، وأنفقت الوقت والمال على معركة لا تكلف طهران كثيراً وتسحب السفن والأصول من مهام أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأماكن أخرى، وتبنت موقف رد الفعل والدفاع الذي لم يتسبب في أي تغيير ملحوظ في عملية صنع القرار الحوثية.
فالدرس الذي تعلمه الحوثيون في هذه الحرب هو أنهم قادرون على إطلاق الصواريخ والطائرات من دون طيار على السفن الحربية الأمريكية والشحن العالمي وشركاء الولايات المتحدة، دون أن يعانوا إلا من عواقب محدودة، وأن أي رد أمريكي سيكون لن يشكل أي تهديد لسيطرتهم في اليمن.